الخميس، 12 يناير 2012

الأستاذ حيدره .. رائد حركة التغيير الاجتماعي في اليمن

في الصورة الأستاذ محمد أحمد حيدرة الثاني من اليمين وإلى يساره الأستاذ سعيد محمد الحكيمي، و يمينه الأستاذ حسين علي الحبيشي، إلى جوار الأستاذ سعيد قائد أحمد في أقصى اليسار، بجوار أحدى الأماكن الأثرية في القاهرة في ستينات القرن الماضي
* بقلم الدكتورعلوي عبد الله طاهر- جامعة عدن
في أوائل القرن الماضي، وتحديداً في العقد الأول منه شهدت بعض القرى في قضاء الحجرية ميلاد طفلين كان لكل منهما فضل الريادة والسبق في إرساء دعائم حركة التنوير في منطقة الحجرية التابعة للواء تعز، بحسب التقسيم الإداري وقتئذ، وهذان الطفلان هما : أحمد محمد نعمان ، ومحمد أحمد حيدره، كان الأول سليل أسرة عريقة من أسر مشايخ التربة، وهي أسرة النعمان، أما الآخر فهو سليل أسرة فقيرة من عامة الشعب. (1)
وربما اجتمع الطفلان في مدرسة ذبحان، والتي كانت عبارة عن (معلامة) يتلقى فيها بعض الأطفال مبادئ القراءة والكتابة والحساب، ويتعلمون بعض المبادئ الأولية من أحكام العبادات التي تمكنهم من أداء الشعائر الدينية من صلاة وصيام وغيرهما، إلى جانب حفظ بعض الآيات من قصار السور لقراءتها أثناء الصلاة .
وكان التعليم في (المعلامة) متديناً، ويقدم بطرائق تدريس عقيمة، وأساليب مملة ومنفرة ،مع نوع من القسوة من قبل المعلم الذي لا يفقه شيئاً من العلوم التربوية الحديثة ، وهذا النوع من التعليم كان هو السائد في معظم المناطق اليمنية ، وبالذات تلك المناطق التي كانت خاضعة لحكم آل حميد الدين ، والذين كانوا قد تسنمو أزمام السلطة بعد جلاء الأتراك العثمانيين من اليمن عام 1918.

وربما كانت مدرسة القرية في ذبحان هي التي جمعت بين نعمان وحيدرة ،وهي التي هيأت لكل منهما فرصة قراءة كتب الشريعة والدين واللغة العربية، المتوفرة وقتذاك، وهي التي مكنتهما كذلك من القبول للدراسة في المعهد الديني في زبيد ، حيث كان الشيخ محمد نعمان قد قرر إيفاد ابنه أحمد إلى زبيد لدراسة العلوم الشرعية ليعود بعدها قاضياً ، وكان لابد أن يكون مع الطفل مرافق وتقرر أن يكون المرافق هو محمد أحمد حيدرة، على اعتبار أنهما صديقان، وعلاهما في مستوى واحد من الذكاء وربما كان ذلك في عام 1924م - بحسب ما تشير سيرة الأستاذ النعمان -، وبقي النعمان ورفيقه في زبيد حوالي سبع سنوات ، كان النعمان في أثنائها قد التقى سيف الإسلام احمد بن يحيى حميد الدين ، في منطقة الزرانيق ، وتعرف عليه هناك ولازمه مدة قصيرة ولكنها كانت كفيلة بتوطيد العلاقة بينهما. (2)
وبعدها عاد احمد محمد نعمان إلى التربة ليعمل معلماً في مسجد القرية ، إلى جانب قيامه بمهام ألوعظ والإرشاد الديني ، في حين اتجه محمد أحمد حيدرة إلى عدن ، بحثاً عن عمل يقتات منة ،وبعد بضعة سنوات ، تحديداً في عام 1935 كان أحمد محمد نعمان قد أنشأ مدرسة في القرية تتكون من عدة فصول ، فطلب من محمد أحمد حيدرة ـ زميله في الدراسة ورفيق صباه- أن يكون مساعده في إدارة المدرسة إلى جانب التدريس ، وكان حيدرة قد استفاد من وجوده في عدن، فقرأ بعضاً من الكتب الحديثة التي كانت تصل إليه من بيروت والقاهرة وغيرهما ، ورأى أن نظام التعليم في عدن يختلف كثيراً عن التعليم الذي تعلمه ، ورأي أن هناك مدارس ذات مبانً حديثة ، ومناهج متطورة ، وأساتذة متدربين ، وطلاباً منظمين ، يلبسون زياً موحداً ، ويمارسون جملة من النشاطات ، في داخل المدرسة وخارجها ، ورأي أن التعليم في مدراس عدن ليس مقصوراً على العلوم الشرعية كما هو الحال في مدرسة زبيد التي تعلم فيها ، بل تدرس فيها كثير من العلوم الحديثة كالتاريخ والجغرافيا والأدب واللغة والرياضيات والتربية الوطنية والاجتماعية ،والرسم والرياضة البدنية ، فأراد أن يحاكي مدراس عدن بإدخال تلك المواد الدراسية إلى مدرسة القرية، وهي مغامرة لم يعمل حساباً لنتائجها .. إذ عمل برنامجاً للحصص الدراسية أدخل فيه مواداً حديثة كالرياضيات والعلوم والجغرافيا والتاريخ والرسم والرياضة البدنية، وعمل على تأسيس فرقة كشفية من طلاب المدرسة ، مستفيداً من نظام التعليم في عدن. (3)
كما عمل تأسيس ناد مدرسي تلقى فيه المحاضرات ،وسعى لتأسيس مكتبة للمطالعة ، تحتوي على بعض الكتب الحديثة ، إلى جانب بعض المجلات والصحف التي كان يأتي بها من عدن ،وكان حيدرة قد أثار غضب القوى المتخلفة لأنه كان يرتدي بنطلوناً وليس معوزاً. (4)
ولكونه بدأ يحدث تغييراً ملحوظاً في نمط التعليم ومناهجه وأساليبه ، في تلك القرية النائية من قرى ذبحان ، ولما شعر بأن عمله بدأ يعطي أكله شرع في تأسيس فرقة مسرحية من طلاب المدرسة ، مستفيداً من مشاهداته للمسرح المدرسي في مدارس عدن ، ولكن عمله ذاك استفز القوى المتخلفة من زبانية السلطة ، فبعثوا رسائل إلى أمير تعز أحمد بن يحيى حميد الدين ، يخبرونه أن حيدرة وبالتواطؤ مع النعمان يعمل على تخريب عقول الطلبة وإفساد أخلاقهم وإخراجهم من الدين ، بما يقوم به من تغيير ، فاعتبروا كل ما يقوم به تقليد للنصارى بالزي ، والمسلك ، فاعترضوا على لبس السراويل عند ممارسة الرياضة ، واعتبروا الفرق الكشفية تدريباً عسكرياً لهدف التمرد على حكم آل حميد الدين ، فما كان من أمير تعز إلا أن أمر بإغلاق المدرسة ، وحبس الأستاذ حيدرة ، وفرض الإقامة الجبرية في تعز على النعمان ، إلا أن هذه العملية أثارت الرأي العام اليمني عموماً ، وأبناء ذبحان خصوصاً ، فما أن وصلت أخبار إغلاق المدرسة إلى عدن ، فإذا بالناس يبرقون إلى أمير تعز أفراداً وجماعات يطالبونه بإعادة فتح المدرسة من غير إبعاد الأستاذ حيدرة ، وعدم المساس بالمنهج الحديث الذي أدخله الأستاذ حيدرة إليها ،وإعادة الاعتبار للأستاذ النعمان الذي فرضت عليه الإقامة الجبرية على أثر هذه المشكلة ، وشكل ذلك كله ضغطاً شعبياً على أمير تعز حينذاك ، لإجباره على فتح المدرسة ، وفي الوقت نفسه كان مضطراً لإغلاقها خوفاً من تأثيراتها في الناس ، وخشية دفعهم للمطالبة لتغيير ، وفي هذه الأثناء كان حاكم التربة حينذاك أكثر الناس تشدداً في مسألة إغلاق المدرسة ؛ بدعوة نشرها العلوم الغربية ، في حين كان (نعمان) متحمساً لفكرة تحديث التعليم، فسعى إلى تكثيف الجهود لإصلاح التعليم ،- على الأقل في منطقته - إلا أن أمير تعز لم ترق له الفكرة ، وقرر إغلاق المدرسة نهائياً ، وهو ما أغضب كلاً من نعمان وحيدرة ، ولتهدئة خاطر كل منهما قرر الأمير تكليف الأستاذ نعمان القيام بتعليم ابنه سيف الإسلام محمد البدر ، وتكليف الأستاذ حيدرة العودة إلى تربة ذبحان؛ لا لتعليم لصبيان كما كان سابقاً ، ولكن للقيام بمهام تزويج الشباب والحد من غلاء المهور. (5)
ورضي كل منهما بالقيام بما طلب منه / خاصة أن الأمير أحمد وعد بمنح مخصص شهري كمعاش لكل منهما ، وكان أمير تعز يرمي من وراء ذلك إلى تحقيق جملة من الأهداف ، منها :
- امتصاص غضب أهالي ذبحان من جراء إغلاق المدرسة .
- الاستجابة لمطالبهم الواردة في المذاكرات المرفوعة له المتعلقة باتخاذ الإجراءات المناسبة للحد من ارتفاع المهور ، مما كان سبباً في عزوف الشباب عن الزواج .
- الاستفادة من قدرات الأستاذ النعمان العلمية والتربوية ، وتوجيهها لتعليم ابنه محمد البدر ، بهدف تأهيله للحكم .
- الاستفادة من مهارات الأستاذ حيدرة في الحوار والإقناع للعمل على إقناع أهالي ذبحان للحد من غلاء المهور ، وعمل ما في وسعه لتزويج الشباب .
- إبعاد كل منهما عن الآخر لإضعاف تاثيرهما في الناس ، وكان الأستاذ احمد نعمان قد استفاد من موقعه القريب من أمير تعز ، وعلاقته الوطيدة به ، فسعى للحصول على منحه دراسية للالتحاق بالأزهر الشريف في مصر ، في حين بقي الأستاذ محمد حيدرة في اليمن يمارس جملة من النشاطات من بينهما توثيق عقود النكاح في ذبحان وغيرها ، ولكن العلاقة بينهما ظلت متواصلة ، فكان حيدرة يزور النعمان في القاهرة بين الحين والآخر ، كما كان نعمان يلتقيه عند عودته إلى اليمن بين وقت وآخر ، فشكلا معاً تحالفاً ثنائياً ، وكان له عظيم الأثر في حركة التنوير اليمنية فيما بعد .
إلا أن طريقة كل منهما كانت تختلف عن الآخر، وإذ كان نعمان ميالاً للخوض في القضايا السياسية ، ومعارضة سلطة آل حميد الدين ، خاصة بعد اختلافه مع ولي العهد ، أمير تعز وقتذاك ، فاستغل موهبته الخطابية في التحريض لإسقاط حكم آل حميد الدين ، على خلاف حيدرة الذي لم يكن مهماً كثيراً بالشأن السياسي ، بقدر اهتمامه بالشأن الاجتماعي ،وإذ ساءه ما رأى من تخلف في المجتمع، والمتمثل في الجهل والفقر والمرض ، فأراد النهوض بالمجتمع من خلال محاربة هذه المظاهر الثلاثة ليس بتغيير الحكام ، وإنما بتغيير المحكومين ، فسلك طريقاً للتغيير من خلال إعادة تربية الناشئة ، على أسس علمية ، وانتهاج طرائق تربوية حديثة ، لخلق أجيال واعية بقضايا الوطنية ، وقادرة على الإسهام في بناء الوطن بفاعلية ، من خلال تربيتها تربية وطنية وفنية وجمالية ، مستخدماً في ذلك كل الوسائل الممكنة للتغيير الاجتماعي ، فكان يرى أن التغيير الاجتماعي لا يكون عن طريق الخطب والمواعظ ، كما فعل نعمان ، ولا بالتحريض بالشعر كما فعل الزبيري ، ولا بالكتابة في الصحف كما فعل بعض قادة المعارضة ، وإنما بالانخراط في صفوف الناس ، وتلمس مشكلاتهم ،والعمل على معالجتها من خلال المسرح ، فكان يرى أن بإمكان مسرحية واحدة أن تفعل في الناس ما لا تفعله مائة خطبة أو قصيدة ، لأن المسرح لسان حال المجتمع ، وهو مرآة عاكسة لكل أحوال المجتمع ، ومصورة لكل جوانبه.
ولقد كان حيدرة تربوياً منفتحاً على الحياة ، وصاحب نكتة ، ولديه القدرة على التمثيل والإخراج ، ولقد استواه المسرح وولع بالتمثيل وبرع في الإخراج ، فكان من أوائل المؤسسين للمسرح المدرسي ،وأوائل المشتغلين بالتمثيل والإخراج ، فكان يرى التعليم لا يقتصر على حشو أذهان التلاميذ بالمعلومات الجافة ، وليست مهمة المعلم حشد أكبر قدر ممكن من المعارف المجردة وحشرها في عقول الصغار بالتلقين ، وإنما بالانفتاح على الحياة ، والنظر إليها كما هي في الواقع ، من خلال العمل المسرحي .
وانطلاقاً من هذا المفهوم عمل حيدرة على إرساء دعائم المسرح المدرسي ، فقام بإعداد كثير من المسرحيات والعمل على تدريب التلاميذ على التمثيل ، وكان يختار أحياناً بعض المسرحيات العربية ويعمل على يمننتها ليجعلها ملائمة للبيئة اليمنية ، أو يعمد إلى اختيار المسرحيات التي تعالج القضايا الاجتماعية المعاشة ، كقضية غلاء المهور ، وكثرة النساء العوانس والرجال العزاب ، ونجح نجاحاً باهراً في استخدام المسرح لمعالجة هذه الظاهرة ، مما لفت إليه نظر ولي العهد أمير تعز وقتذاك ، في وقت كثرت فيه الشكاوى من غلاء المهور وإحجام الشباب عن الزواج في كثير من مناطق محافظة تعز .
وبسبب تلك المسرحيات الهادفة محاربة غلاء المهور ، والحد من المغالاة في تكاليف الزواج ، وكان حيدرة قد اكتسب شهرة كبيرة في المغالاة في تكاليف الزواج ؟، وكان حيدرة قد أكتسب شهرة كبيرة في أوساط الفتيان والفتيات ،وليس في أوساط نواحي تعز ومنطقة تربة ذبحان فقط ، وإنما في أنحاء مختلفة من اليمن بما فيها عدن .
وكنا قد عرفنا أن أمير تعز أحمد يحيى حميد الدين كان قد كلف الأستاذ حيدرة لحل مشكلة عزوف الشباب عن الزواج في منطقته ، ولتسهيل مهمته زوده ببلغة وعسكري وكيس مملوء بالريالات ، وقبل الشروع بتنفيذ ذلك قام بإيفاد أشخاص إلى ذبحان لترويج إشاعة مفادها أن جلالة الإمام لن يسمع بعد الآن ببقاء فتاة فوق الخامسة عشرة ودون الثلاثين من العمر دون زواج ، وانه سوف يرسل موفداً من طرفه اسمه القاضي حيدرة لتزويج الشباب جميعهم ، بحيث لا يبقي شاب أو فتاة في سن الزواج عازباً ، وسوف يقوم بمعاقبة كل أب يغالي في مهر ابنته ، أو يضع العراقيل أمام زواجها ، وعليه فإن الأهالي جميعاً ملزمون بتزويج أبنائهم وبناتهم ممن بلغوا سن الرشد خلال الفترة التي سيقيم فيها القاضي حيدرة بينهم ، بصرف النظر عن كونهم فقراء أم أغنياء ، فعلى الأهالي استغلال وجود القاضي حيدرة في وسطهم للشروع بتزويج أبنائهم وبناتهم ، وممن يكتشف بعد انتهاء المدة المقررة أنه حال دون تزويج ابنه أو ابنته فإنه سيتعرض لعقوبات قاسية أقلها الحبس والغرامة.
وكانت تلك الإشاعة قد اقترنت بتكليف أفراد من قبله النزول إلى البيوت ، وتسجيل أسماء الشبان والفتيات الراغبين في الزواج ، مع تحديد اسم الفتاة والفتى الذي يريد الاقتران بها ، وأسم عائلته وعنوانها وما إذا كانت هناك مفاتحات سابقة بالموضوع أم لا .
وكانت هذه الإشاعة والإجراءات المرافقة لها قد هيأت الناس لقبول فكرة الزواج الميسر بل المجاني ، وبالتالي لقي اسم حيدرة شهرة لا نظير لها في أوساط الشبان والفتيات ، فكانوا ينتظرون قدومه إليهم بفارغ الصبر ، بل ويتسابقون لا ستضافته، في حين كان آباء البنات مجبرين على التجاوب مع هذه الإجراءات ولا حول لهم ولا قوة .
وعندما حان موعد نزول حيدرة إلى ذبحان ، استبشر الشباب بمقدمه ، وهتفوا باسمه ، وتعالت الأصوات ترحيباً به ..
ويزخر تراثنا المحكي بالعديد من الأهازيج والمهاجل الشعبية التي كانت تقال ترحيباً بحيدرة ، بعضها على لسان الفتى ، وبعضها الآخر على لسان الفتاة .
ومما قيل على لسان الفتى :
يا حيدرة باخبرك بحالي *** اشتيك تزوجني ببنت خالي
ياحيدرة خليثك هنا شوية *** اشتيك تزوجني من البنية
ومما قيل على لسان الفتاة :
ياحيدرة أقدم قليل شحاكيك *** زوج بنات ذبحان الله يخليك
ياحيدرة باحملك أمانة   ***  اعقد بنا من روبية وعانة
ياحيدرة زوج بنات ذبحان *** ببقشتين وإلا بقرش رنان
آبائهن فيهم قليل عواجة *** هم كرهوا الشباب بالزواجة
ولست أدري هل نجح حيدرة في تزويج شباب بلدته ، أم أنه أخفق !! المهم انه عمل ما في وسعه لتحقيق هذه الغاية وربما كان بذلك قد سن سنة حسنة ، مأجور من يعمل بها إلى يوم القيامة ، غير انه من المؤكد أن المهمة التي قام بها حيدرة لم تكن سهلة ، ولا هي ميسورة ، فهي بالقدر الذي أفرحت الشباب ، إلا أنها أغضبت بعض الشيوخ الذين رأوا فيها نوعاً من الإجراءات القهرية التي حرمتهم من الحصول على مهر بناتهم ، مما حدا ببعضهم إلى القيام بمحاولة فاشلة لتسميمه ، حيث دعوه لحضور مأدبة غداء في وليمة من ولائم العرس التي لم يكن أهلها راضين عن الطريقة التي تم بها تزويج ابنتهم ، وفي أثناء تناوله الطعام تقدم صاحب الوليمة نحوه ، ومد إليه إناءً فيه (مرقة) بعد أن شرب منه بضعة جرعات أمامه لإظهار المودة ولتطمينه ، في حين أنه كان قد أخفى قليلاً من السم تحت ظفر إصبعه التي دسها في الإناء عند تقديمه ، فشرب ما فيه من (مرقة) ، ولم يكن يعلم أن السم في الدسم ، فكاد يلقى حتفه لولا لطف الله .
وكانت هذه المحاولة لتسميمه كفيلة بإيقاف نشاطه وإحباط همته للعدول عن تزويج الشباب ، ولكنه ظل مستمراً في ذلك باذلاً شتى المحاولات لتزويج الشباب على سنة الله ورسوله .
ومن محاولات حيدرة في تزويج الشباب ما قام به في مدينة عدن بعد قدومه إليها هارباً في حوالي أواخر الأربعينات من القرن الماضي أو أوائل الخمسينات ، وسبب هروبه أنه كان قد اشتغل لفترة من الزمن بعلم النجوم ومراقبة الكواكب ، وكان يدعي قراءة الطالع على عادة المنجمين ، فصار منجم الإمام أحمد ، يقرأ له تباشير المستقبل ، ولما وجد من الإمام انجذاباً للتنبؤات التي كان بها يدغدغ عواطفه ، ويعمل على استرضائه لنيل أعطياته ، فاستهوته الفكرة واستلذها وشرع بعمل نتيجة فلكية على غرار نتيجة فلكي اليمن المعروفة بنتيجة (( بيت الفقيه )) لآل مهدي ، وقد سمى حيدرة نتيجة الفلكية ( طلائع النجوم) وكان يصدرها في مطلع كل عام هجري، ويغلب عليها طابع الألغاز والتورية والغموض في صياغة عباراته ، مستخدماً في ذلك أرقام الحروف المعروفة ، فكان يأتي بعبارات مبهمة قابلة للتأويل على مختلف الأوجه ، وعندما يطلب إليه تفسيرها يشترط إعطاءه بعض المال ، ثم يفسرها بحسب مقتضى الحالة .
وفي إحدى النسخ المطبوعة في القاهرة من (طلائع النجوم) وردت عبارة تنبأ فيها بمستقبل الإمام أحمد حميد الدين – ملك اليمن حينها – من خلال قراءة طلائع النجوم ، فيها : (( ابشر يا مولاي فإن صراطك مستقيم)). وكان بعض الخبثاء من رجال المعارضة في القاهرة قرأ هذه العبارة في المطبعة ، فأضاف نقطة فوق حرف الصاد ، ولم يكن حيدرة قد علم بذلك ، فأهدى نسخة للإمام من النتيجة الفلكية تلك مستبشراً بالمكافأة ، وخاصة عندما رأى الإمام يقراً تلك العبارة ، وينظر إليه بين الفينة والأخرى ، ثم سأله قائلاً : من المقصود بهذه العبارة ، فأجابه من فوره (( أنتم يا مولاي )). فما كان من الإمام إلا أمر بحبسه ، لينال جزاء إهانته له . وأستطاع الأستاذ حيدرة مخادعة الحراس، والهرب إلى عدن ، لينجو بنفسه من العقاب .
وفي عدن التقى عدداً من سماسرة الأراضي وتجار العقارات الذين كانوا يرغبون في إقامة بعض المباني في حي الشيخ عثمان قبل تخطيطه ، ووقع اختيارهم على أراض في أطراف حارة الهاشمي ، كانت فيها بعض العشش والصندقات التي تسكنها بعض بائعات الهوى، فارادوا مساومتهم في التخلي عن تلك العشش مقابل حصولهم على التعويض المناسب، ولكنهم رفضن التخلي عن تلك العشش بحجة أن زبائنهم قد اعتادوا عليها ولما فشلت محاولات سماسرة الأراضي بإقناع تلك النسوة للانتقال إلى أماكن أخرى مقابل ان يبنوا لهم بيوتاً أفضل وأوسع. لجؤوا إلى الأستاذ حيدرة لحل هذه الإشكالية وطالبوه بالعمل على تمكينهم من تلك الأراضي لما عرفوا عنه من حذق وذكاء وحسن تصرف في المواقف المختلفة ووعدوه ببناء بيوت جديدة عوضاً عن العشش التي تخلى عنها تلك النسوة فما كان من الأستاذ حيدرة إلا أن يتقمص ثوب الداعية والذهاب إلى كل امرأة منهن يدعوها للتوبة والكف عن ممارسة هذه المهنة المبتذلة، وطالبهن بتغيير نمط الحياة التي اعتدن عليها، وكان العائق الذي يحول دون توبتهن هو عدم وجود مصدر آخر للرزق فوعدهن بإيجاد حلول لمشاكلهن جميعها واشترط أن تتعهد كل واحدة منهن بتغيير أسلوب حياتها بعد توبتها، وهو بدوره سيعمل على تزويجها برجل يرعاها ويصونها ووعدها ان يبني لها بيتاً يليق بها لتبدأ حياتها من جديد، فكانت المرأة التي تستجيب لدعوته، سرعان ما ينلقها إلى بيت جديد يشتريها من مال التعويض الذي كان معروضاً عليها من قبل، ثم يذهب إلى عمال الدكة في المعلا، ويلتقي العازب منهم، ويقوم بعملية أقناعة بالزواج من المرأة التائبة ثم يقدم لكل منهما مالاً يكفيهما لإعادة ترتيب حياتهما الجديدة في مقابل التخلي عن تلك العشش وتمكين المقاولين من بناء أحياء سكنية حديثة بدلاً عنها وهكذا نجح حيدرة في حل مشكلات كان قد فشل فيها غيره.
وسبب نجاحه انه كان شخصية اجتماعية فكهة ويمتلك قدرة عجيبة في إقناع الناس بالفكرة التي يريد توصيلها ولديه مهارة متميزة في الحوار، وأساليب متعددة في معالجة القضايا الاجتماعية وكان صاحب نكته، وسريع البديهة، وقادراً على ابتكار المواقف الضاحكة، وهو ما أهله ليتم اختياره من قبل الأستاذ حسين الحبيشي - عميد كلية بلقيس في الشيخ عثمان خلال عقد الستينيات ليعمل مدرساً فيها، ومسؤولاً عن النشاط المسرحي فيها، وقد نجح في ذلك أيما نجاح، يشهد له تلاميذه وبعض معاصريه بذلك.

* الهوامش (تصحيح بعض المعلومات أعلاه من مصادر ومراجع جمعتها هيئة تحرير هذه المدونة:

(1) كان الاستاذ محمد حيدرة، ينتمي لاسرة ثرية، كان والده احمد حيدرة أحد التجار المعروفين في مستعمرة عدن آنذاك، وكان يملك وكالة تجارية للاستيراد والتصدير في عدن وعدد من المحلات والدكاكين لبيع السلع والبضائع التي يقوم باستيرادها من الهند وافريقيا، كما كان يعمل على تصدير محاصيل الحبوب والبن، وغيرة. وكان أحمد حيدرة يملك اراضي وعقارات كثيرة في تعز. حتى أن الارض التي بني عليها المبنى الحديث للمستشفى الجمهوري في تعز، بعد ثورة 1962، كان ملكاً للراحل أحمد حيدرة، وقد تبرع به ابنه محمد حيدرة لبناء المستشفى بحسب ما يؤكد حجر الاساس القديم الموجود في حوش المسشتفى الجمهوري.

(2) لم يكن الاستاذ حيدرة يعرف الاستاذ أحمد محمد النعمان، بحسب ما تؤكده مذكرات (أحمد محمد نعمان) الصادرة عن المركز الثقافي الفرنسي ومكتبة مدبولي 2003، حيث التقيا لأول مرة في مدرسة التربة ذبحان حين جاء الاستاذ حيدرة من عدن الى تعز للتدريس بها، بطلب من الاخ الأكبر لأحمد محمد النعمان.

(3) الاستاذ محمد حيدرة درس في جامعة القاهرة، وهو حاصل على البكالوريا في العلوم. وهو ايضاً خريج جامعة (السربون) في فرنسا، حيث تعلم فيها علوم الجغرافية والفلك. وكان عضواً جمعية الفلكيين العرب في الاسكندرية، وكان يحضر مؤتمرها السنوي في مصر. حتى توفي في الاسكندرية سنة 1973. راجع (مجلة الحكمة اليمانية 1984). (كتاب رياح التغيير في اليمن) محمد أحمد الشامي. ومذكرات سلطان سلام.

(4) الاستاذ حيدرة أثار غضب القوى التقليدية، وأثار غضب النعمان نفسه الذي كان ملتزم دينيا بطريقة تقليدية، بسبب أنه "كان يعزف على العود ويعلم التلاميذ بعض الحقائق العلمية في الفلك والجغرافيا حول كروية الارض، ودورانها حول الشمس، وبسبب تأليفه الاغاني والاناشيد الوطنية، وتكريس امسرحيات "شكسبير" وتأديتها على خشبة المسرح على طلاب مدرسة ذبحان. (بحسب مذكرات أحمد محمد نعمان، مكتبة مدبولي 2003).
(5) لم يكن موقف كما ذكر الدكتور علوي طاهر، بل كان معارضاً ومحرضاً لأسلوب وفكر الاستاذ حيدرة في بداية الامر. لدرجة أنه تحالف مع عامل "التربة" وحاكم تعز على الوشاية بالاستاذ حيدرة لدى الامام أحمد، وهو ما جاء في مذكراته (مكتبة مدبولي 2003) يقول النعمان : "حرضت التلاميذ وأولياء أمورهم على الأستاذ حيدرة وكان من نتيجة ذلك أنّ « سفروه (سافر) إلى عدن ، ورجع الأولاد إلى المدرسة.


* رابط مصدر المادة: صحيفة 14 اكتوبر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق