الخميس، 12 يناير 2012

عن هاشم علي وبعض عمالقة القرن العشرين في اليمن


* بقلم: محمد ناجي أحمد
الحديث عن التنوير في اليمن على مستوى اللون أو السرد الحكائي أو المسرح أوالوعي التربوي والتعليمي , يجعل المتتبع والمهتم يقف عند ثلاث شخصيات جذرت لهذا الفعل الحداثي, الأول كان محمد أحمد حيدرة . في بداية هذا القرن جاء من مصر بعد أن حصل على الثانوية العامة , , وبدأ في تأسيس المسرح في عدن عام 1927, وأدخل أدوار للمرأة وإن قام به رجال , لكن ذلك على مستوى الإخراج والمحتوى كان تجديداً يحسب للأستاذ حيدرة الذي عرَّب مسرحيات , بشكل موازٍ للمسرح المصري الذي جذره يعقوب صنوع, ثم بعد ذلك انتقل حيدرة إلى مدينة التربة ليعلم في مدرسة تابعة للأخ الأكبر للأستاذ النعمان , حينها أدخل حيدرة مقررات تعليمية حديثة في الرياضيات والتاريخ والوطنية , والجغرافيا, وهذا التعليم الحديث , كان مفاجئاً ومغايراً للتعليم التقليدي الذي توارثته الأجيال حتى ثلاثينيات القرن العشرين , حينها بدأ حيدرة صادماً لذلك الوعي الموروث وصادماً ومؤثراً على أهم رجالات الحركة الوطنية , أي الأستاذ أحمد محمد نعمان , الذي بدأ معارضاً لهذا الشكل الحداثي من التعليم , الصادم لتعليمه التقليدي , وانتهى به المطاف إلى التأثر به , والانتقال إلى مصر لتلقي العلم والتأثر بالحداثة والليبرالية المصرية . في الثلاثينيات من القرن العشرين جاء حيدرة إلى التربة ليؤسس شكلاً حداثياً من طرق التعليم لازال حتى يومنا هذا مستبعداً من الممارسة التربوية , ألا وهو طريقة التمثيل والحوار في تقديم المادة العلمية , هكذا كان حيدرة يقدم التاريخ بطريقة الحوار والتمثيل , وكان على مستوى مفهوم الوطنية , مؤسساً ومبدعاً لهذا المفهوم بمحتواه الحداثي الذي ينتمي للقرن العشرين , هكذا كانت أناشيده التي يعملها للتلاميذ في مدرسة التربة , في الجبانة التابعة لبيت النعمان , وبسبب نهجه الحداثي والمغاير في التعليم وفي مفهوم الوطن , كان تحريض النعمان , وحاكم التربة محمد بن علي عبد الكريم المجاهد بضرورة نقل الأستاذ حيدرة لأنه يفسد الدين والمفاهيم الراسخة للوطن والأمة والتاريخ وشكل الأرض ودورانها حول الشمس .

وهكذا كان الاستاذ حيدرة رائداً للتحديث في المسرح والتربية والتعليم والوطنية الحديثة، انتقل إلى تعز بطريقة إجبارية، وبدأ في التدريس في مدرسة دار الذهب، وسار في نهجه الحداثي سواء في مسرح شجرة الطولقة والعرضي أو في طريقة التدريس الحداثية للتاريخ والوطنية والجغرافيا والرياضيات.

الشخصية الثانية التي نرى أنها لازالت سقفاً معرفياً على مستوى الرواية , وهنا الكارثة , هو محمد أحمد عبد الولي هذا السارد العظيم , كان وقتها في الستينات والسبعينات مستوعباً للثقافة السردية الواقعية , ووممتصاً للثقافة المدينية المؤسسة على تعدد الأعراق وعلى المصالح التجارية للمغتربين الذين يؤسسون حضورهم على الهجرة والتجارة , هكذا استطاع محمد عبدالولي سرد حكاية المهمش بين الهويات وخاصة ما كان يطلق عليهم "المعونة" أي اليمني من أم أفريقية , كنوع من الاحتقار والتنقيص نقل محمد عبد الولي الاختلاجات النفسية والشعورية والخيالية لهذه الشخصية المنقسمة بين هويتين , والمنبوذة منهما بشكل أكد حضورها الإنساني والإبداعي . كان محمد عبدالولي مواكباً وقتها للفنون البصرية والسينمائية واستطاع حينها وخاصة في رواية "صنعاء مدينة مفتوحة " من استيعاب وامتصاص فيلم "روما مدينة مفتوحة " وبوعي متجاوز لزمنه استطاع أن يستثمر عنوان الفيلم الاربعيني, ليؤسس عمله "صنعاء مدينة مفتوحة", ذلك العمل الذي ظل حتى أواخر القرن العشرين مصدر تكفير وقلق من قبل رأسمال الديني !!

وثالث رجالات التنوير الحداثي على مستوى اللون كان هاشم علي , هذا الفنان الذي ظل إلى يوم وفاته بتاريخ 7/11/ 2009م سقفاً فنياً على مستوى اللون , عاكساً للعمق الواقعي والإنساني , بالتصاق وحميمية , تعلي من الموقف والرؤية الإنسانية , التي تحتفي وتعتقد بالإنسان كقيمة جوهرية وأساسية , وكلية عاكساً ذلك من خلال اللون الذي يعكس موضوعات جوهرية , عن المرأة والكادح والشقاء والمعاناة , وبألوان جرافيتية , ظلت هي الأقدر لدى هاشم علي في التصوير والتعبير عن اهتماماته الإنسانية والموقف تجاه الحياة والكون بأفق ينتصر ويتحيز للإنسان المقصي والمصادر امرأة كانت أو كادح يحمل على كاهله , قهر المنتصرين , هذا هو هاشم علي الذي ظل في تعز سقفاً بعيد التجاوز وهنا الكارثة أيضاً , حين يصعب على الأجيال التالية له في تعز من تجاوز أحلامه واهتماماته , بل في محاكاة عمقه الإنساني , وحيوية خطوطه وعمقها الفلسفي ,المؤسسة لمجتمع حر , متجاوز للقهر والاستلاب.

لم يستطع أحد من تلاميذ هاشم علي مواصلة بل ومحاكاة اهتمامات المعلم , في رؤيته للحياة والإنسان والكون , قلدوا خطوطه وأعادوا إنتاج اهتماماته , لكنهم عجزوا عن التماهي مع حيويته وإنسانيته ورسالته , بهذا كانوا مجرد أمساخ تخلوا من روح الابتكار والأصالة التنويرية , أقصد أصالة الابتكار المغايرة للتقليد , حتى وإن كان تقليد المعلم , لان السير على نفس الطريق يصبح مهزلة تدعوا إلى البكاء , وتذكر المشاء الأول الذي أبدع في مشيته , رؤيته وترجمتها من خلال اللون , بل كان اللون هو ذلك الموقف , ذلك الإنسان , تلك الرؤية , وذلك الانتصار للمسلوبين والمقهورين .

فكرة التنوير بين سعيد الفقيه ومحمد حيدرة:
مابين القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مسافة ليست كبيرة بعدد السنين , لكنها مستطيلة في فكرة التنوير , تماماً كالمسافة ما بين وعي الفقيه "سعيد الفقيه" السلفي المنحى والتبعي السياسة ، علماً أن حركة الفقيه سعيد قامت في فترة عصر النهضة , وبالتالي لم تكن ظروف العصر التقليدية حتمية الأثر والتأثير , خاصة وأن "الفقيه سعيد" كان قد قدم إلى اليمن بعد أن كان في تركيا ثم زار فارس , وعاد بعد ذلك مزوداً بالمال الكافي لبناء مسجد في منطقة الدنوة , ومن هذا المسجد , بدأ في تدريسه السلفي , ثم بحركته السياسية من أجل فصل المنطقة من سمارة إلى العدين عن حكم الإمام "الهادي محمد بن أحمد بن المنصور علي " مستفيداً في ذلك من المظالم التي كان يتسبب بها قبائل المشرق المتحكمون باسم الإمام على هذه المناطق الزراعية , ولأن حركة الفقيه سعيد في نظري لم تكن مقطوعة الصلة عن الاحتلال العثماني الذي جاء نتيجة القلاقل والاضطرابات التي شملت بعد حركة الفقيه سعيد منطقة الحجرية , ثم كان بعد ذلك دخول الأتراك واحتلالهم لليمن مهيئاً وممهداً بحركة الفقيه سعيد وحركات أخرى في الحجرية !! بسبب المظالم التي تراكمت فكانت النتيجة احتلالاً وحروباً وفقراً وأمية واضطهاد سياسي لكل مناوئ , حتى وصل الأمر بابتكار أشكال جديدة من التعذيب لكل مقاوم , كما حدث حين عمل الأتراك على القضاء على حركة " الصافية " في العدين في القرن السابع عشر , وهو ما استمر نهج العثمانيين في قمعهم لكل مقاومة , فالإضافة إلى أشكال الرهائن القروسطية , وكانت مثلثة ، إلى خلس جلد المقاوم لاحتلالهم ، إلى الخازوق وغيرها من أشكال التعذيب التي ورثها العثمانيون أو ابتكروا بعضها فالمسافة مابين حركة الفقيه سعيد ووعيه السلفي , وبين الممارسة التنويرية التي أسسها "محمد أحمد حيدرة "من بداية القرن العشرين وحتى خمسينيات ذلك القرن , سواء على مستوى تأسيس المسرح في الأندية والمدارس أو على مستوى التعليم الحديث الذي أدخله هذا المعلم الرائد إلى مدينة التربة ثم إلى مدينة تعز في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين – كانت قصيرة من حيث الزمن شاسعة من حيث الرؤيا التنويرية لحيدرة ، لكن الذاكرة اليمنية باهتماماتها الرسمية ظلت تستحضر حركة الفقيه سعيد ووسمتها بحركة ثورية ضد كهنوت الإمامة , وتجاهلت من ذاكرتها الرسمية , الحركة المسرحية والتعليمية والاجتماعية التي أحدثها هذا الرائد الكبير بفعله وأثره ، لكن المجتمعات المتخلفة بطبعها المعرفي وبنزوعها السياسي تمجد كل حركة مناوئه للإمامة , حتى ولو كان البديل استعمار تركي , ظللنا ردحاً من الزمن نسميه "فتحاً عثمانياً " وحتى يومنا هذا , لازال مصطلح الفتح في المقررات الدراسية يجاور مصطلح الاحتلال , وشفهياً يزيح معلم مادة التاريخ بوعيه الإسلاموي وبتربيته السابقة , مصطلح "احتلال " ليبقى مصطلح "الفتح" هو الدلالة الفاعلة تلقينياً لذاكرة الأجيال , مما يجعل "الفقيه سعيد " وحركته ضمن هذا السياق المعطل للعقل , مقدمة مباركة لفتح مبارك. 

*نشرت هذه المقالة في صحيفة الشارع – 2010.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق